جمال اللغة العربية وأصالتها
اللغة: أصوات يعبر بها كل قوم عن مرادهم، ويرادفها اللسان، والعربية نسبة إلى العرب؛ سموا عربا لأنهم لا يزالون موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام، والفصاحة في المنطق، والذلاقة في اللسان، فهذا الاسم مشتق من الإبانة لقولهم: "أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه"، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب تعرب عن نفسها"، والبيان سمتهم بين الأمم منذ كانوا وقد وصف الله تعلى لسانهم بالإبانة في قوله تعالى (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين).
قيل إن أول من تحدث اللغة العربية آدم عليه السلام علمه الله إياها ضمن اللغات التي علمه كما قال تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) ، وتكلم بها من تكلم من أبنائه، وتداولها أجيال معرفون من أحفاد نوح عليه السلام يتوارثونها جيلا بعد جيل، ومن بقاياهم تعرب إسماعيل عليه السلام، باد منهم من باد وبقي منهم من بقي من أعمدة النسب المعروفة من أبناء عدنان وقحطان وقضاعة على القول بانفراده عن الإثنين، إلى أن نزل بها القرءان الكريم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد انتشرت مع انتشار الإسلام وتبوأت مركز الصدارة في أنحاء العالم المعروفة وقتها وفي شتى فنون المعرفة، واستوعبت حضارات الأمم المختلفة وثقافاتهم، وزادتها وعدلت فيها وابتكرت؛ لتقدمها للعالم فنونا وآدابا وعلوما واختراعات وأنظمة وقوانين ومعارف شتى، نهل العالم من معينها الثَّرِّ أجيالا بعد أجيال، واستمد منها الشرق -كما الغرب- ما شاء لهم الله أن يستمدوا، وكانت المنارة التي استضاءت بها أوروبا لتجتاز عصورها المظلمة إلى ما ستسميه لاحقا (عصر التنوير... ثم النهضة..) ثم الثورة الصناعية... إلى عهد ما يسمى اليوم بالعولمة.
ويكفي اللغة العربية شرفا أنها لغة القرءان المحفوظ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المعجز بأقصر سورة منه؛ (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) وأنها لغة الحديث الشريف؛ لغة محمد صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق الضاد،
لغة الإبتكار والتجديد:
لا ينازع أحد اليوم في أن اللغة العربية هي أقدم اللغات المكتوبة على الإطلاق، وأنها اللغة الوحيدة بين هذه اللغات التي حافظت على وجودها منذ نشأتها حتى اليوم، وبنفس المفردات والصيغ والتراكيب والمفاهيم المعجمية والبلاغية، في حين أن جميع اللغات القديمة عداها قد تلاشت لتحل محلها لغات ولهجات أخرى تكاد لا تمت لها بصلة.
ولعل أبرز دليل على ذلك أنك لو قرأت نصا لشكسبير (مات قبل 382 عاما فقط) على إنجليزي مثقف، باللغة التي كتب بها؛ لما فهم شيئاً قبل أن يترجم له.
ولكنك لو استوقفت أي أعرابي ما بين نواكشوط ودبي، وقرأت عليه قول الحطيئة في صدر الإسلام:
ولست أرى السعادة جمع مال = = ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا = = وعند الله للأتقى مزيد
أو قول امرئ القيس:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل = = ..........................؛
لفهمها وطرب لها.
وقد أفصحت هذه اللغة العربية عن عبقريتها وقدرتها المتجددة على التكيف والإبداع في شتى العلوم؛ من هندسة وجبر وطب وفنون حرب وتجارب علمية غير مسبوقة، ناهيك عما وصلت إليه من فنون الإبداع في مجالات الأدب والتأليف حيث استطاع العديد من العلماء – وباللغة العربية- أن يبتكروا طريقة غير مسبوقة في التأليف؛ إذ نجد المؤَلَّفَ الواحد يتضمن عدة مؤلفات في فنون مختلفة، يقرأ كل واحد منها من بداية المؤلف إلى نهايته عبر حرف أو كلمة متواصلة من أمكنة متعددة من أسطر المؤلف الأصلي في سبك و أسلوب صناعي يتجاوز مستويات الإبداع المعهود إلى درجة يمكن أن نسميها الإعجاز المعرفي، ومن أبرز أمثلة هذا النمط من التأليف كتاب العلامة اليمني إسماعيل بن أبي بكر بن المُقرئ (755 – 837 هـ) المسمى "عنوان الشرف الوافي في علم الفقه والعروض والتاريخ والنحو والقوافي"؛ فمتن الكتاب في الفقه، والحروف الأوائل من أسطره في علم العروض، والأواخر في علم القوافي، والكلمات المتوسطة على الجانب الأيمن من الصفحات مؤلف في تاريخ دولة بني رسول اليمنية، والكلمات المتوسطة على الجانب الأيسر من الصفحات مختصر في علم النحو...
وقد سبقت ابن المقرئ وتلته عدة نماذج من التآليف على هذا المنوال نثرا ونظما لا يتسع لها المقام الآن، وكان للشناقطة نصيبهم من جميع ذلك.
فأي لغة اليوم أخرى استطاع أو يستطيع أبناؤها أن يصلوا بها أو تصل بهم إلى مثل هذا المستوى، أو ما يقارب ما يقاربه ولو بواسطة الحاسوب؟!
ولم تزل اللغة العربية لغة العلم والثقافة ووسيلة التواصل الأولى ولسان التعليم حتى في العصر الحديث؛ فهذه الجامعات السورية تتبنى في جميع كلياتها، وفي جميع مراحلها اللغة العربية بما فيها كلية الطب (1919) وقبل ذلك كان تأسيس المجمع العلمي الأول في دمشق (1914) والأمثلة غير ذلك كثيرة.
كل ذلك قبل أن يتمكن الاستعمار من السيطرة على الشعوب ويفرض قيوده على لغات الأمم المستعمرة أو المحمية، وينجح في مراميه نجاحاً كبيراً، خصوصا بواسطة عملاء اكتسبهم في فترات متتالية لهذا الغرض.
ورغم الضربات الموجعة – بل والقاتلة- التي تعرضت لها اللغة العربية في العصر الحديث من طرف أعدائها في الخارج وأعوانهم في الداخل، وما رافق تلك الضربات من حملات مسعورة للنيل منها والتشنيع عليها ومحاولة إقصائها والقضاء عليها في عقر دارها؛ بالرغم من كل هذا فقد ظلت هذه اللغة تشق طريقها وتتقدم عبر العالم، بفضل ما تمتلكه من عناصر القوة والمناعة الذاتية والمكتسبة، وسيأتي –إن شاء الله- اليوم الذي تكون فيه اللغة العربية من أهم لغات سكان المعمورة (ويأبى الله إلا أن يتم نوره).